المفكر المصرى الكبير جمال طه يكتب.. كيف انزلقت دولة الإمارات الي المستنقع السوداني؟! «1/2»
__________________
مقال الأسبوع الماضي [كيف حرر الجيش السوداني العاصمة الخرطوم؟!] أثار الجدل بشأن دعم الإمارات لميليشيات الدعم السريع.. البعض استبعده، مستندا لمساندة الامارات لمصر، وعلاقة السيسي القوية بمحمد بن زايد، مما لا يستقيم ودعم ميليشيات معادية لمصر، لدرجة مهاجمة قواتها بمطار مروي قبل المواقع السيادية بالخرطوم.. البعض الآخر تقبل المعلومة مستنكرا تسامح مصر مع الإمارات.. هذا الخلاف فرض توحيد المفاهيم بشأن حقيقة موقف الإمارات، وانعكاساته على علاقة الدولتين، وما طرأ من متغيرات على الأرض ستحدث انقلابا في موقف أبو ظبي.
***
بداية نؤكد أن وصف «المستنقع السوداني» يتعلق بما أحدثته الميليشيات من انهيار للنظام الأمني والصحي والخدمي لإسقاط الدولة، ولا علاقة له بالسودان الشقيق، الذي نحارب معركته كتفا بكتف، ونقتسم معه غذائنا وسكننا حتى عودة قريبة لوطنه.
الإمارات والسودان تبادلا طرد الدبلوماسيين في ديسمبر 2023، بعد تراكم العدائيات، أبو ظبي طردت الملحق العسكري السوداني وعدد من الدبلوماسيين، وبورتسودان ردت بطرد 15 من الدبلوماسيين العاملين بسفارة الإمارات.. الدولتان حاولا تطويق الأزمة، وتجنب إثارة الرأي العام، لكن محققو الأمم المتحدة أصدروا منتصف يناير 2024 تقريرا تداولته الصحافة العالمية، أعاد تفجير الأزمة، تضمن ما يلي:
1. تقديم أدلة موثقة عن انتهاك الإمارات حظر الأسلحة المفروض على السودان منذ عقدين من الزمان.
2. أن شحنات الذخائر والأسلحة المتطورة «المُسيَّرات القتالية UCAV، مدافع الهاوتزر، قاذفات الصواريخ المتعددة، أسلحة م.ط محمولة»، كانت تفرغها أسبوعيًا طائرات الشحن الإماراتية بمطارات تشاد ليتم نقلها برا عبر الحدود الى السودان، ما قلب توازُن القُوى في دارفور ونيالا والفاشر والجنينة الميليشيات.
3. أكدت بيانات تتبع رحلات طائرات الشحن الإماراتية منذ يونيو 2023، التناوب الكثيف من مطار أبوظبي الدولي، والتوقف بإحدى الدول الإقليمية «أوغندا، كينيا، ورواندا»، قبل الوصول لمطار «أم جرس» شرق تشاد.
4. حصلت الميليشيات على كميات من الوقود وسيارات تويوتا لاندكروزر، عبر الحركات المسلحة الدارفورية في ليبيا، وبعض ضباط الجيش الشعبي في «واو» بجنوب السودان، وبالتنسيق مع «الجزولي عبد الله» المهرب محترف عضو الميليشيات [تدخلت مصر آنذاك وأوقفت المسار الليبي].
***
صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية نشرت تقريرا كاشفا في أغسطس 2023، عن هبوط طائرة شحن إماراتية قادمة من أبوظبي، في مطار أوغندي بداية يونيو أشارت وثائقها الى أنها تحمل مساعدات إنسانية للاجئين السودانيين، لكن حمولتها كانت أسلحة وذخائر!! مسئولو المطار أوقفوها، قبل تلقي أوامر بعدم تفتيش رحلات أبوظبي، ومنع التقاط صور للطائرات.. مراقبو العقوبات بالأمم المتحدة وصفوا ما نُشِر بأنه «ذي مصداقية».
نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» فبراير 2024، صورة مذكرة سرية أرسلها «إيدان أوهارا» سفير الاتحاد الأوروبي بالسودان، أكد فيها تزويد الامارات للميليشيات بأسلحة نوعية، حيَّدت التفوق الجوي للجيش.. وصحيفة «الجارديان» البريطانية نشرت في 24 يوليو، صورة من الوثيقة التي تسلمها مجلس الأمن في 25 يونيو وتحتوي على 41 صفحة، تضمنت صور جوازات سفر ضباط مخابرات إماراتيين «اثنان من دبي، وواحد من العين، ورابع من عجمان»، وجوازي سفر مواطنين يمنيين «أحدهما مواليد دبي، والآخر من الضالع»، تم العثور عليها في فبراير داخل حطام مركبة عسكرية تابعة للميليشيات في أم درمان.
نقلت الوثيقة عن شركة «فينيكس إنسايت»، التي تحلل صادرات الأسلحة للمنظمات الحكومية وغير الحكومية، أن المسيرات المعدلة التي تستخدمها الميليشيات لإسقاط قنابل حرارية شديدة التدمير، اشترتها الإمارات من شركة صربية.. وأضاف «نيك جينزين جونز» مدير مؤسسة خدمات أبحاث التسلح، التي تعقبت مآلات الأسلحة الإماراتية، أن قذائف الهاون عيار 120 ملم التي تستخدمها الميليشيات اشترتها الإمارات أيضًا.
صحيفة «نيويورك تايمز» نقلت عن مسئولين أمريكيين في 20 سبتمبر 2024 – معززة بصور الأقمار الصناعية- أن الامارات شيدت قاعدة «أم جرس» في تشاد، لترسل من خلالها الدعم العسكري، الذي تحمله قوافل برية تدخل دارفور عبر منفذ الجنينة، وزودتها بمحطة توجيه للمسيرات «وينغ لونغ 2» صينية الصنع، لجمع المعلومات الميدانية، وشيدت داخلها مستشفى بتكلفة 20 مليون دولار لعلاج جرحى الميليشيات، وأضافت أن الإمارات حاولت إخفاء حملتها السرية لدعم الميليشيات، بهدف دعم نفوذها الإقليمي بالعمل تحت راية الهلال الأحمر.. «جيريمي كونينديك» رئيس منظمة اللاجئين الدولية – مسؤول سابق في إدارة أوباما وبايدن- اتهم الامارات في سبتمبر، بإدارة «عملية مساعدة وهمية» لإخفاء دعمها للميليشيات.
***
السودان طلب في ابريل 2024 عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث «عدوان الإمارات على الشعب السوداني»، ومساندتها للميليشيات.. الخارجية السودانية أكدت في مايو، امتلاكها دلائل موثقة على توسيع الإمارات لمدرج مطار «أبشي» في نوفمبر 2023 وتشييد مخازن تشوين لاستخدامه كبديل، بعد افتضاح أمر مطار «أم جرس» وخروج مظاهرات قبلية ضد الوجود الإماراتي، وقدمت تقريرا رصد أكثر من 400 رحلة طيران تحمل عتاداً حربياً للميليشيات.
***
فى محاولة للرد على تشويه صورتها الدولية، شنت الإمارات حملة علاقات عامة أواخر يونيو 2024 لتقديم وجه إنساني لتدخلاتها في السودان، تضمنت مساهمات مالية كبيرة للمنظمات الدولية المعنية، بذريعة تعزيز جهود عمليات الإغاثة الإنسانية ودعم شئون اللاجئين بالسودان، كان نصيب منظمة الصحة العالمية منها 8 مليون دولار، و20 مليون للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، و25 مليون لبرنامج الغذاء العالمي، و5 مليون لمنظمة الأغذية والزراعة، و5 مليون لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
وادعت الإمارات أن مقر سفيرها بالخرطوم تعرض لقصف طيران الجيش أواخر سبتمبر 2024، لكن الجيش استنكر الاتهام، مؤكدا أن الميليشيات استهدفت مقار السفارات والبعثات الدبلوماسية ومنظمات الأمم المتحدة واتخذوها مقارًا عسكرية.. ووزارة الخارجية أكدت أن المبنى يقع بالحي الدبلوماسي جنوب الخرطوم، الذي تحتله الميليشيات، وقد اعتدت عليه ضمن 40 مقرًا دبلوماسيًا بنفس الحي.. وأضافت أن العقار مملوك لمواطن سوداني، قتلته الميليشيات، ولم يعد يُستخدم كمقر دبلوماسي، منذ انتقال السفارة الإماراتية لبورتسودان بداية الحرب.
***
خلال زيارتي الشيخ محمد بن زايد لواشنطن في ديسمبر 2023 وسبتمبر 2024، واجهته الإدارة الأمريكية بالمعلومات الاستخبارية عن جرائم الميليشيات ضد المدنيين، وحاولت إقناعه بالتخلي عن دعمها، لكنه أكد حرصه على رد الجميل لقائدهم «حميدتي» لدعمه القوات الإماراتية خلال حرب اليمن، وأشار الى أنه حصناً ضد جماعات الإسلام السياسي بالمنطقة!! والحقيقة أنه يصعب التعويل على الموقف الأمريكي لأن الدور الإماراتي جزءًا من استراتيجيتها في أفريقيا، للحد من الهيمنة الصينية بمزيد من الدعم لدولها، مما يفسر إعلان الإمارات عن استثمار 45 مليار دولار لدول القارة، أي قرابة ضعف ما استثمرته الصين.
***
رهان الإمارات على حميدتي استند لقناعتها بقدرته على الانتصار، ما يؤمّن مصالحها بالسودان «احتياطات الذهب، ميناء على البحر الأحمر، أراض خصبة تروى بمياه النيل..»، لكنها اكتشفت مؤخرا أن رهانها «خاسر»، لأنه لم يحسم الحرب رغم ضخامة الدعم ومرور عام ونصف على الحرب، وأن حرب الإبادة ضد المدنيين شوهت صورته، وجرائم السرقة والاغتصاب، استبعدت قبوله سياسيا، إقليميا ودوليا.
«أمجد فريد» مستشار عبد الله حمدوك، والقيادي بقوى الحرية والتغيير كشف أوائل يوليو 2024، أن الإمارات أبلغت مصادر دبلوماسية بخمسة شروط لوقف دعمها للميليشيات، وانهاء الحرب:
أولا: الاستحواذ على منطقة «الفشقة» بولاية القضارف بمساحة مليون فدان، بمقتضى اتفاق تخصيص استثماري بنسبة 50% للإمارات، و25% لكل من السودان وإثيوبيا!!
ثانيا: إدارة واحتكار محاصيل مشروع الجزيرة الزراعي، أكبر مشروع ري انسيابي في العالم بمساحة 2.2 مليون فدان، لمدة 25 إلى 50 عامًا، ضمانا لأمن الإمارات الغذائي التي تستورد ٩٠٪ من احتياجاتها الزراعية.
ثالثا: تكليف تحالف «تقدم» بتشكيل حكومة جديدة، يتولى رئاستها أحد المرشحين المقبولين وعلى رأسهم عبد الله حمدوك، وهي لا تعترض على استمرار القيادة العليا للجيش في مناصبها.
رابعا: إقالة عدد كبير من المدنيين والعسكريين الذين تعتبرهم الإمارات لأسباب سياسية أو أيديولوجية عائقا في علاقتها بالسودان.
خامسا: تشييد وإدارة الإمارات لميناء تجاري في «أبو عمامة»، 200 كيلومترا شمال بورتسودان، باستثمارات 6 مليار دولار، بالشراكة بين مجموعة موانئ أبو ظبي وشركة إنفيكتوس للاستثمار فى دبي، وهي جزء من مجموعة دال التابعة لرجل الأعمال السوداني أسامة داود، المسئول عن مشروع الفشقة.. ولا ترى الامارات تعارضا للمشروع مع وجود قاعدة بحرية روسية تكتيكية ولوجستية جنوب بورتسودان.
آبى أحمد – الأشد عداء للنظام السوداني – توسط لدى البرهان، لإقناعه بالتواصل مع بن زايد، مما يرجح صحة ذلك التسريب، الذي لم تناقشه القيادة السودانية، باعتباره مقترح قديم سبق رفضه، لمساسه بسيادة السودان ووحدة ترابه الوطني.
***
ولكن هل انعكس تناقض المصالح بين مصر والإمارات بالسودان على علاقات الدولتين؟! وكيف انهارت مخططات الإمارات في السودان والقرن الأفريقي؟! وهل تؤثر مصر على موقف أبو ظبي من طرفي الحرب؟! وما مستقبلها؟!
إجابات موعدها الأسبوع المقبل ان شاء الله.