“الضَرَا”.. تقليدٌ سودانيٌّ راسخٌ ضيّعته الحرب
رصد – نبض السودان
كنا ننتظر قدوم شهر رمضان بفارغ الصبر لنخرج إلى الضرا ونتناول إفطارنا مع أحبائنا والجيران والأهل والأصدقاء لكن الحرب اللعينة حرمتنا تلك المُتع”
لشهر رمضان مكانة عظيمة عند السُّودانيين، ولديهم طقوسٌ خاصّةٌ للاحتفاء بالشهر المعظم، وتأخذ أشكالاً مختلفة، التي تأتي مزيجاً من الموروث الديني والتراث الشعبي.
على رأس تلك العادات والطقوس السودانية في شهر رمضان، الإفطار بالطرقات والميادين والساحات العامة التي تُعرف محلياً بـ”الضَرَا”، وكلمة الضرا تعني المضاراة أي مضاراة الفقر خلف الغنى، أي إخفاؤه بحيث لا تشعر أن هناك فرقاً بين المجتمعين. أما اصطلاحاً فيقصد به المكان الذي يجتمع فيه الناس لتناول الطعام والأنس والسمر جماعةً في رمضان. كما يعتبر سانحة طيبة للتلاقي وتجاذب أطراف الحديث مع الجيران والأقارب أنفسهم، الذين لا يجدون فسحة من الوقت لفعل ذلك مع إيقاع الحياة السريع خاصّة في المدن.
يقول سيف الدين عبد الحميد لـ”العربية.نت”: الضرا عادة تقليدية سودانية انبثقت من طبيعة المجتمع السوداني التكافلية. تقتضي عادة الضرا أن يعين الناس بعضهم بعضاً بحيث يأخذ الغني بيد الفقير أيام الشدة في المعيشة أو حتى في الأحوال العادية فيلتئم جمعهم في مساحة معينة داخل القرية يسمونها “الضرا” ويأتي كل فرد بما لديه من طعام ويضعه أمام الباقين بحيث لا يجد الفقير حرجاً في الجلوس معهم بحسبانها مائدة عامة، تماماً مثلما يحدث أيام رمضان أيضاً في البروش والحصائر والسجاجيد التي يجلس عليها الجميع. تمخضت هذه العادة عن ظاهرة شهدناها أيام اعتصام الثوار بمبنى القيادة العامة وهم يفرشون قطعة قماش لجمع التبرعات ويصيحون: (عندك خت، ما عندك شيل). ويشير سيف الدين إلى أن عادة الضرا قروية أكثر منها مدنية، حيث يسود التآلف بين الناس في القرى. وكلمة القرية نفسها مشتقة من القِرى بكسر القاف وهو الكرم.
وكثيراً ما يأخذ “الضرا” طابع التركيبة السكانية، فالغالبية العظمى من القرى التي تقع بمحاذاة الطرق السفرية، وطرق المرور السريع يحرص أهلها على تناول الإفطار على مقربة من الشارع، حتى يشاركهم الإفطار العابرون للشارع، وتجدهم يتسابقون في إكرام الضيوف، على نحو ينم عن الكرم السوداني الأصيل. ويتزاحمون بالمناكب والأقدام لقطع الطريق وإجبار العابرين على تناول الإفطار بأشكال مختلفة، فهناك من يشد عمامة طويلة ومنهم من يقف مُلوِّحاً، وآخرون تجدهم يجازفون بأنفسهم، غير عابئين بمخاطر التعرُّض للعربات بالطرق السريعة، لإجبارها على الوقوف والترجُّل لتناول الإفطار الرمضاني.
ورداً على سؤال لـ”العربية.نت” عن هل اختفت هذا العام بفعل الحرب؟! يوضح سيف الدين “لا أقول اختفت كلياً، لكن لا شك أن الحرب أثّرت عليها بسبب نزوح الفريقين الأغنياء والفقراء إلى مختلف الأمصار، إذ أصبح الكثيرون يصيحون نفسي.. نفسي”.
على ذات النّسق، يؤكد علي أحمد مقيم بمدينة أم درمان لـ”العربية.نت” أن التقليد الراسخ والعادة السودانية الشهيرة في تناول الإفطار في جماعات بالساحات والميادين وسط الأحياء السكنية، والتي تُعد أبرز طقوس الشهر المعظم، انزوت بصورة لافتة بسبب الحرب الطاحنة والمعارك المُحتدمة بين الجيش والدعم السريع منذ رمضان الماضي. والأسباب واضحة ومعروفة، فالميادين والساحات وسط الأحياء السكنية أو بالطرقات العامة، صارت أماكن غير آمنة وفي غمضة عين يمكن أن يتحول المجتمعون إلى ضحايا للقصف العشوائي والهجمات المسلحة بين الطرفين المتحاربين.
ويضيف مواطن ثان لـ”العربية.نت” بكلمات مُـؤثِّرة تقطر حزناً وأسىً “كنا ننتظر قدوم شهر رمضان بفارغ الصبر لنخرج إلى الضرا ونتناول إفطارنا مع أحبائنا والجيران والأهل والأصدقاء، لكن الحرب اللعينة حرمتنا تلك المُتعة”.